الصورة 3: خلال عام واحد، أصبحت بيلسان الطالبة الأفضل في كافة مدارس المنطقة
بمناسبة اليوم الدولي لحماية التعليم من الهجمات، الذي اعتمدته الأمم المتحدة بدعوة من صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر، رئيس مجلس إدارة مؤسسة "التعليم فوق الجميع" ومجلس إدارة مؤسسة قط توضح رحلة فتاة سورية كيف أن التعليم أقوى من الحرب
حين اتجهت بيلسان حربوشة صباحًا نحو مدرستها القريبة من منزلهم في ريف دمشق، لم تكن تدرك أنها المرة الأخيرة التي سترى فيها مدرستها، معلميها وزملائها، وأن تلك المدرسة التي تحب، ستتحول إلى أنقاض ورماد.
"نحن الأطفال لا نحمل أسلحة، لا نؤذي أحدًا، من يوّد فعلًا أن يمنعنا عن مقاعد الدراسة ونحن نتعلم كي نبني عالمًا أفضل؟"
بيلسان حربوشة
إلى هذه اللحظة، كانت الطفلة السورية التي لم يتجاوز عمرها آنذاك التسع سنوات، تظن أن المدرسة مكان آمن، لا تصله القذائف ولا الصواريخ، كانت تطمئن والدتها قائلة: "نحن الأطفال لا نحمل أسلحة، لا نؤذي أحدًا، من يوّد فعلًا أن يمنعنا عن مقاعد الدراسة ونحن نتعلم كي نبني عالمًا أفضل؟"
"اختبأت مع زملائي تحت المقاعد الدراسية، كنا نصرخ ونبكي ونسنتجد بمن ينقذنا من الشظايا التي أصابت بعضنا”
ما حدث في ذلك اليوم، جعل بيلسان تصطدم بالواقع، لقد سمعت دوي انفجار قريب من المدرسة، وشاهدت الجدران تهتز، والنوافذ تتحطم.
تتذكر بيلسان:" اختبأت مع زملائي تحت المقاعد، كنا نصرخ ونبكي ونسنتجد بمن ينقذنا من الشظايا التي أصابت بعضنا، لقد عجزت عن النطق في ذلك اليوم، ومنذ ذلك الحين لم أتمكن من تجاوز فكرة أنني كدت أموتُ في أي لحظة"!
لم يكن يتوجب على بيلسان أن تودع مدرستها المدمرة، وحسب، بل طفولتها أيضًا، فها هي الحرب هنا، حيث صوت القذائف وصراخ الأطفال ومشاهد الخطف والدمار أمام أعين الجميع، وعيون بيلسان كانت تخبئ الحزن والخوف من المجهول.
الصورة رقم 2: تقول بيلسان أنه في لبنان، كان عليهم أن يعيشوا في غرفة صغيرة بالإيجار، كما أنها اضطرت للعمل في محل للألبسة"
وفي لحظة يأس، حين قرر الوالد أن تنتقل الأسرة إلى لبنان هربًا من الحرب، انبثق من تلك العينان بريق أمل: بلد للجوء، بيت آمن، ومقعد دراسي!
تشرح بيلسان:" مع وصولنا إلى لبنان، كان علينا أن نعيش في غرفة صغيرة بالإيجار، كما اضطررت للعمل في محل للألبسة. كان التأقلم صعبًا للغاية، لكن والدتي كانت دائمًا تقول لنا:" علينا أن نتنازل ونواجه التحديات".
بالنسبة إلى بيلسان، كان التحدي الأكبر هو في إكمال دراستها، لقد كان التعليم الأمل الوحيد لها ولجميع الأطفال والشباب في جميع أنحاء العالم، وقد تم الإعلان عن اليوم الدولي لحماية التعليم من الهجمات بقرار من الجمعية العام للأمم المتحدة بعدما دعت إليه صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر، رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر، والذي يهدف إلى رفع مستوى الوعي بمحنة الأطفال المتأثرين بالنزاع المسلح والذين هم في أمس الحاجة إلى دعم تعليمي.
لم يكن قبول بيلسان في مدرسة حكومية في القرية اللبنانية التي استقرت بها بالأمر السهل، بسبب تخصيص مدرسة للطلاب القادمين من سوريا بسبب الحرب خارج القرية، لكن، بإصرار من الأم ورهانها على تفوق ابنتها، قبلت المدرسة باختبار مستوى الفتاة الأكاديمي، حيث حققت نتائج استثنائية.
انضمت بيلسان إلى المدرسة، وكانت الطالبة السورية الوحيدة، وبفضل ذكائها وقدراتها، لم تعد تعرف كما في السابق بـ" الفتاة السورية" بل بـ" الطالبة التي لا تُهزم".
تتذكر بيلسان الأيام الأولى في المدرسة الجديدة، وقلقها الناجم عن ضعفها باللغة الإنجليزية، قائلة:"حين طلبت مني معلمة اللغة الإنجليزية أن أقرأ أمام زملائي، لم تسعفني لغتي الضعيفة، فأخطأت، وهو ما دفع زملائي إلى التنمر، فقررت حينها أن أتفوق".
خلال أشهر قليلة، بدأت قدرات بيلسان الدراسية تبرز، وبدأت تحقق نتائج عالية، وخلال عام واحد، أصبحت الطالبة الأفضل من ناحية الأداء ليس فقط في مدرستها المحلية وحسب، بل في كافة مدارس المنطقة، كما أنها بدأت في تقديم دروس في الانجليزية للطلاب الآخرين. وفي اختبارات الحصول على شهادة البكالوريا، حققت المركز الأول في مادتي الفيزياء والرياضيات.
" حين غادرتُ سوريا، كنت أمام خيارين، إما أن أستسلم للظروف، وإما أن أواجه التحديات وأثبت أن العلم أقوى من الحروب والدمار، وقد اخترت المواجهة".
توضح بيلسان:" بفضل علاماتي المرتفعة في المواد العلمية، كنت مؤهلة لدراسة تخصص هندسة البترول الذي يمثل طموحي المستقبلي، كما أهلتني علاماتي لفرصة الحصول على منح للدراسة في الخارج".
ولكن، وبسبب جائحة كوفيد-19 والاجراءات التي فرضتها في قطاع التعليم، لم تتمكن بيلسان من الحصول على منحة، فكان عليها أن تختار تخصصًا آخر وهو هندسة الديكور.
تقول بيلسان:" لقد وجدته البديل الأفضل، ولأنني أصر على العثور على الشغف في كل ما أتخصص به، فقد تمكنتُ من التفوق منذ العام الجامعي الأول".
"كان والدي يخبرني أنني سأصل إلى القمة، لذا، سأحرص على أن أكون دائمًا الأفضل لأنني واثقة من أنه يراقبني، حتى لو من بعيد".
مدرسة مدمرة في سوريا. الصورة مصدر: anasalhajj ، موقع عبر Shutterstock
خلال الصيف، تعمل بيلسان صباحًا في مكتب هندسة ديكور، وفي مؤسسة صغيرة للطباعة، خلال فترة بعد الظهر.
تقول بيلسان: "لا شك أنني أتوق للتفرغ الكامل للعلم والدراسة وقراءة الكتب والخضوع لدورات تدريبية عبر الانترنت، إلا أنني أحتاج إلى العمل، ولكنني أتخذ من إمكانية تطوير مهاراتي من عملي محفزًا كي أستمر".
رغم أن هندسة البترول ما زال التخصص الذي تحلم به، لن ترض بيلسان، والتي يبلغ عمرها اليوم 19 عامًا، بلقب أقل من "أهم مهندسات الديكور في العالم". وتتذكر كيف أخبرها والدها الذي رحل مؤخرًا في سوريا، أن التعليم هو الأمل الأكبر أمام كل الأطفال الذين يعانون من آثار الحروب، من أجل حياة أفضل.
تضيف بيلسان:" حين غادرتُ سوريا، كنت أمام خيارين، إما أن أستسلم للظروف وأدعها تتغلب علي، وإما أن أواجه التحديات وأثبت أن العلم أقوى من الحروب والقتل والدمار، وقد اخترت المواجهة".
وتختتم:" لقد كان والدي يخبرني أنني سأصل إلى القمة، لذا، سأحرص على أن أكون دائمًا الأفضل، كي أجعله أكثر فخرًا بي لأنني واثقة من أن والدي يراقبني، حتى لو من بعيد".